قد يكون السعي الدائم نحو الكمال والمثالية هو أحد الصفات الرئيسية التي تميز الجنس البشري، إذ يمكننا دائمًا التركيز على أهداف غير عادية مع الاستعداد لتقديم تضحيات بطولية، وآلاف الساعات من الجهد، والعديد من المنعطفات الخاطئة وفترات اليأس الشديد، ونفكر باستمرار في إمكانية الوصول إلى هذه الأهداف، وإنجاز الأعمال على أكمل وجه. لكن مع الأسف قد تكون هذه الرغبة المستمرة في السعي نحو المثالية عائقًا لأداء الأفراد بسبب الضغط والتوتر الذي تتركه، ما يؤدي إلى العديد من الآثار السلبية على حياة الفرد الشخصية والمهنية. في هذا المقال سنتحدث عن المثالية وآثارها السلبية على الأفراد، مع تقديم بعض النصائح لمحاولة التغلب عليها.

ما هي المثالية؟

يلتزم الأشخاص المثاليون بمعايير عالية قد تكون مستحيلة التحقيق، ويرون أن ما يفعلونه ليس جيدًا بما يكفي أبدًا، ويعتقد بعض الأشخاص خطأً أن السعي وراء المثالية هو عبارة عن حافز جيد للتقدم في الحياة اليومية والمهنية، ولكن هذا ليس صحيحًا دائمًا، فقد تجعل المثالية الشخص يشعر بعدم الرضا عن حياته، ويمكن أن تؤدي إلى الاكتئاب والقلق واضطرابات تناول الطعام وإيذاء النفس. وفي النهاية، يمكن أن يتوقف الشخص أيضًا عن محاولة النجاح. وحتى الحالات الخفيفة منها يمكنها أن تتداخل مع نوعية الحياة، وتؤثر على العلاقات الشخصية والتعلم والعمل.

يؤثر السعي نحو المثالية على كل من الأطفال والبالغين، وغالبًا ما تدفع الأطفال والمراهقين إلى إنجاز أكثر من المتوقع في الواجبات المدرسية بالإضافة إلى الأنشطة مثل الرياضة والنوادي وخدمات المجتمع والوظائف. وهذا ما يمكنه أن يؤدي إلى هوس النجاح. وفي النهاية، يمكن أن يعيق القدرة على تحقيق ذلك.

ما هي أعراض المثالية؟

الرغبة في تحقيق الأهداف هو أمر صحي، ولكن الرغبة غير المنطقية في الظهور بشكل مثالي دائمًا يمكنها أن تسبب المشاكل. ويؤدي السعي وراء المثالية إلى ظهور العديد من الأعراض منها:

• الشعور بالفشل عند القيام بأي شيء.
• المماطلة المستمرة، قد يمتنع الشخص عن البدء بمهمة ما خوفًا من ألا يتمكن من إنهائها على أكمل وجه.
• معاناة عند الاسترخاء ومشاركة الأفكار والمشاعر.
• قد يصبح الشخص متحكمًا أكثر في علاقاته الشخصية والمهنية.
• يصبح الشخص مهووسًا بالقواعد والقوائم والعمل أو قد يصبح غير مبالٍ بشكل كامل.

الآثار السلبية للسعي وراء المثالية؟

الإرهاق العاطفي

يمكن أن تؤثر المثالية على الرفاهية العاطفية للفرد، فالمثاليون الذين يكون دافعهم للإنجاز هو الخوف، تكون احتمالية تحقيقهم للسعادة والرضا عن عملهم أقل من غيرهم، ويميل القلق والتوتر الناجم عن هذه المشاعر التي يقال إنها محفزة إلى أن يكون غير مرضٍ، وقد تسبب مشاعر الخمول والفراغ، وهكذا، فإن الأشخاص المثاليين الذين يعملون لوقت إضافي لتحقيق أهدافهم هم أكثر عرضة للإرهاق، وقد وجدت العديد من الدراسات صلة بين السعي وراء المثالية والإرهاق العاطفي والآثار المنهكة التي تتركها.

العصبية وسيطرة المشاعر السلبية

العصبية (أو الميل إلى الشعور بالمشاعر السلبية) شائعة عند الأشخاص المثاليين، وكثيرًا ما يُقال إن الناس المثاليين معرضون للإصابة بأمراض نفسية معينة، فقد تجعل المثالية الشخص يعاني لاحقًا من التكاليف المتصورة للفشل، ونتيجة لذلك، يمكن أن يصاب العديد من الأفراد بالعصبية، ما يسبب نقص المرونة في التعامل مع الآخرين وظهور العديد من المشاكل في العلاقات الشخصية والاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك هناك ارتباط وثيق بين المستويات العالية للمثالية وبعض الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق والوسواس القهري، وقد يصل الأمر إلى الانتحار، حيث وجدت إحدى الدراسات أن نحو 70% من ضحايا الانتحار الشباب يمتلكون صفات مرتبطة بالمثالية.

مستويات عالية من التوتر

على الرغم من أن الأشخاص المثاليين يخشون الفشل، إلا أنهم يستعدون لذلك بإصرار من خلال وضع أهداف غير واقعية، فهم لا يتعرضون فقط للتوتر أثناء العمل على تحقيق الأهداف المذكورة (بسبب حاجتهم للمثالية)، إلا أنهم يتوترون أيضًا عندما يفشلون في تحقيقها، ويمكن للمثالية أن تجعل الشخص ينغمر بالأفكار السلبية، ما يؤدي إلى سلوكيات تأقلم غير صحية مثل الإفراط في تناول الطعام. وفي الحالات القصوى، يمكن أن يترجم هذا التوتر إلى أجزاء أخرى من حياة الناس، ويتطور إلى حالة من الشره عند تناول الطعام.

أسباب المثالية والعوامل المؤهبة لها

تعود جذور المثالية إلى الاعتقاد بأن قيمة الذات مبنية على الإنجازات، وغالبًا ما يظهر السعي إلى المثالية عند وجود خليط من هذه العوامل:

• توقعات قاسية ومرتفعة السقف من الأهل.
• الثناء المفرط على الإنجازات.
• تدني احترام الذات والشعور بعدم الكفاءة.
• الاعتقاد أن قيمة الذات نابعة من الإنجازات.
• الميل إلى رؤية الأشياء بطريقة مطلقة (أي اعتبار الأشياء إما كلها سيئة أو كلها جيدة).
• بذل الجهد للشعور بالسيطرة.

ما هي فوائد التغلب على المثالية؟

• الشعور بالمشاعر الشخصية: بدون وضع قيم أخلاقية وأحكام، قد لا يكون الأمر سهلًا، ولكن الشعور بالعاطفة دون التفكير المستمر في الظهور بطريقة مثالية طوال الوقت يساعد في نقل المشاعر عبر الجسم.
• زيادة التواصل مع الآخرين: يؤدي التخلي عن الحذر الدائم، وتقبل الضعف إلى تفاعلات أكثر واقعية مع الآخرين، فمشاركة القصص مع الآخرين قد يقوي علاقة الشخص معهم، ونتيجة لذلك يستطيع الشخص تكوين صداقات جديدة والتعلم من الغير.
• التقليل من مستويات التوتر: يؤدي عدم تقييد النفس بمجموعة من المعايير غير الواقعية إلى الشعور بالحرية، وبذل قصارى الجهد خلال الوقت المتاح وفقًا لمعايير الواقعية من الموارد، فالأمر كله يتعلق بالتوازن ومعرفة أنه لا يوجد أحد يعاقب الأشخاص إذا لم يكونوا مثاليين.
• الانفتاح على تجارب جديدة والتخلي عن معتقدات النظام القديم: يسمح تقبل الأخطاء والتجارب الفاشلة للشخص بتجربة أشياء جديدة وتحمل بعض المخاطر، بالإضافة إلى أنها تمنح الإذن بعد الاستسلام للمعتقدات القديمة الخاطئة.

كيف يمكن علاج السعي وراء المثالية؟

قد يكون من الصعب التعامل مع المثالية، ولكنها قابلة للعلاج، ويمكن استخدام جلسات العلاج النفسي للتغلب عليها من خلال إدارة السبب الجذري للسلوك المثالي، ويستخدم أخصائي الصحة النفسية مقياس المثالية متعدد الأبعاد لاكتشاف أسباب هذه المثالية قبل الخضوع إلى العلاج. وتشمل أنواع العلاجات المستخدمة للتخلي عن المثالية ما يلي:

• العلاج السلوكي المعرفي: يُظهر هذا العلاج للمثاليين أن السعي وراء المثالية ليس ضروريًا في كل ما يفعلونه، وتعلمهم أن الأخطاء مقبولة ويجب ألا تمنعهم من متابعة ما يريدون.
• العلاج بالتنويم المغناطيسي: يساعد العلاج بالتنويم المغناطيسي في التخلص من عقلية “الكل أو اللا شيء” الموجودة لدى المثاليين.
• علاج أنظمة الأسرة: هنا، يتم استخدام العلاج لمعرفة كيفية ظهور المثالية في وحدة الأسرة ومدى تأثيرها على الفرد.

بعض النصائح للتغلب على المثالية

يمكن محاولة التغلب على المثالية باتباع بعض النصائح التي تساعد على إدارتها، وهي:

• تدوين مزايا وعيوب السعي وراء المثالية، فعندما يجد الشخص نفسه معتادًا على المثالية، يستطيع النظر إلى عيوبها والمضي قدمًا.
• وضع أهداف قابلة للتحقيق. يمنع تحديد أهداف قابلة للتحقيق الشخص من السعي وراء المثالية التي لا يمكن تحقيقها، وبهذه الطريقة يمكن تحقيق الأهداف بالموارد المتاحة.
• وضع حدود زمنية للمهام والتأكد من اتباعها. لتجنب قضاء الوقت الزائد في محاولة أداء مهمة ما على أكمل وجه، لذلك يجب وضع حد زمني واقعي والالتزام به.
• تجنب المماطلة. والتركيز على المهمة بدلًا من المنتج النهائي. وإذا استطاع الشخص تقسيم عمله إلى أجزاء أصغر يمكن التحكم فيها لإكمال خطوة واحدة في كل مرة، وذلك لتجنب الإرهاق.

 كل هذه النصائح تساعد في تحسين الأداء العام وتحقيق الإنجازات، ويمكنك الاطلاع على المزيد من النصائح والبرامج العلاجية عبر موقع وتطبيق لبيه.