عالج نفسك بنفسك!
هل تساءلت يومًا، “هل من الضروري لي أن أذهب إلى معالج نفسي؟ أليس من الممكن لي أن أتحسن دون أن أتحدث مع مختص؟ ودون أن أضطر لدفع مبالغ مقابل شخص معظم ما يفعله هو الاستماع لي؟”. إذا فعلت، فلست وحدك، وتساؤلاتك منطقية وتستحق إجابات حقيقية وواقعية دون سد بابها عبارات من قبيل “عليك التحدث مع مختص” أو “المختص لم يدرس ويتخصص من فراغ، لذلك هو أعلم منك” أو غيرها من الإجابات التي تدفعك دفعا للتحدث مع مختص دون أن توفر لك خيارا آخر تستطيع التفكير فيه.
هنالك الكثير من الطرق العلاجية في تخصص علم النفس، والاختلافات بينها أحيانًا كبيرة جدًا، بعضها يركز على الأفكار التي تراودنا بشكل حصري، وأخرى تركز على المشاعر، بينما أخرى تحاول النزول إلى ذكريات الطفولة؛ بحثًا عن أسباب المشاكل الحالية، وثانية تحاول التركيز على اللحظة الحالية وعلى المستقبل والأهداف، وغيرها وغيرها مما لا يمكن حصره هنا؛ فالمجال مفتوح دائما لتكوين طرق جديدة بناء على خبرات علاجية أو حتى على تجارب شخصية، وهذا ما يحدث باستمرار.
حسنًا، ما الذي يجعل هذه الطرق تعتمد وتنتشر وتستخدم؟ ألا توجد طريقة واحدة هي الصحيحة والأكثر فائدة؟ في الحقيقة أن ما يجعل الطرق المستخدمة متعددة هو أنها جميعها مفيدة، على الأقل لعينات مختلفة من الناس. قد نشبّه الطريقة العلاجية بالدواء، حيث أن الدواء قد يوفر فائدة هائلة للبعض، بينما لا يفيد البعض الآخر، بل ربما يضره بالأعراض الجانبية. إحدى النتائج المفاجئة في هذا الباب كانت أن الدراسات التي قارنت بين طرق علاج نفسية مختلفة وجدت أنّ فعاليتها جميعها متقاربة، رغم أن ما يركز عليه كل منها مختلف! تجعلنا هذه النتيجة نتساءل ما إذا كان هناك شيء مشترك بين كل هذه الطرق، شيء هو ما يجعلها كلها فعالة ومفيدة، شيء نستطيع توفيره أو الحصول عليه بأنفسنا، وبالتالي أن نعالج أنفسنا بأنفسنا.
في الحقيقة هناك فعلًا عناصر مهمة مشتركة بين جميع الطرق العلاجية قد تكون هي المسؤولة عن التحسن، على الأقل إلى حد كبير. لكن علينا في البداية أن ننوه بشكل مهم إلى أن المشاكل النفسية تتراوح من الخفيفة سهلة التعامل إلى الشديدة صعبة التعامل، وبالتالي تختلف الطرق التي يجب التعامل معها، لكن الشخص هو الحكم الأخير وهو الأعرف بنفسه. إذا حاولت اتباع بعض طرق الشفاء الذاتي ووجدت المشاعر غامرة أو مؤلمة جدًا، أو إذا لم تتوصل إلى فائدة كبيرة وحدك؛ فمن الأفضل حينها الاستعانة بمختص؛ فليس هناك استثمار أكثر فائدة وربحًا من الاستثمار في صحتك النفسية.
إحدى أهم الأشياء التي تحدث في جلسات العلاج النفسي هي أنك تتحدث! قد يبدو لك الأمر سخيفًا الآن، لكنه ليس كذلك أبدًا. نحن خلال حياتنا اليومية نفكر داخل رؤوسنا بشكل مستمر، وتمر الأفكار ذهابًا وإيابًا في عقولنا دون أن نعي بها وبتأثيرها علينا، ودون حتى أن نعرف ما هي في أحيان كثيرة. قد تكون الأفكار والقناعات تلقائية ومتجذرة فينا لدرجة أننا لم نتحدث عنها حتى مع أنفسنا، ولم نلبسها رداء الكلمات الذي يجعلنا نراها بوضوح بعد. ما نفعله في جلسات العلاج هو أننا نتحدث، ونستمع إلى أنفسنا ونحن نتحدث. عندما نفعل ذلك فإننا نلاحظ في كثير من الأحيان خطأ الأفكار التي نقولها أو سخفها أثناء نطقنا بها، قبل حتى أن ينطق المعالج بشيء.
هل تعرف أن الكثير مما يفعله المعالج هو أن يعيد صياغة كلامك لك؟ يشبه الأمر أحيانًا أن تكون في غرفة فارغة يرتد فيها صدى صوتك لك؛ فتدرك سخافة بعض أفكارك بشأن نفسك عندما تسمعها. قد تكون لديك قناعة بأنك فاشل مثلًا، قناعة مخفية متحكمة فيك بشكل لا تعيه، ولكنك عندما تنطق بها تتحول إلى شيء مرئي، شيء تستطيع التفكير فيه واختباره، وينطبق الأمر على أفكار أخرى كثيرة كل ما علينا هو أن نراها على حقيقتها بأن نكسوها برداء من الكلمات حتى تخرج من حيز المجهول المخفي إلى المعروف الواضح المرئي؛ فالتعامل مع المجهول الغامض صعب لأننا لا نعرف ما هو، لكن الأفكار الواضحة الجلية أسهل في التعامل، وفي أحيان كثيرة يكون كل ما نحتاجه هو أن نستمع إلى أنفسنا ونحن نتحدث حتى ندرك خطأ الطريقة التي نفكر بها.
قد لا تزال الفكرة تبدو سخيفة لك، قد تقول “لو كان التحدث هو الحل لما بقي هناك من يعاني”، والصراحة أن هذه العبارة حقيقة إلى حد ما، لكن هل يتحدث الناس فعلا عن مشاكلهم الحقيقية دائمًا؟ هل يشاركون مشاعرهم وأسرارهم والأشياء التي يشعرون بالعار أو الذنب منها مثلًا؟ والأهم من ذلك، هل لديهم من يتحدثون معه في هذه الأمور أصلًا؟ وهل يشعرون بالأمان لمشاركتها والتحدث عنها؟ يوفر العلاج النفسي قبل كل شيء علاقة بين المراجع والمختص تكون آمنة وبلا أحكام وسرية تمامًا يستطيع فيها التحدث ومشاركة ما يريد، وربما البكاء أو الغضب أو الضحك حتى، أي أنها توفر مجالًا للحديث بكل أريحية ودون التحفظ أو خوف من شيء. لا، ليس القصد هنا الدفع بك مجددًا للذهاب إلى جلسة مختص نفسي، بل إخبارك بما يميزها، وهو أمر قد يتوفر في العلاقات الصحية الآمنة، سواء مع صديق أو فرد عائلة أو زوج أو زوجة.
من النتائج التي تتأكد مرارًا وتكرارًا في مجال الصحة النفسية هي الأهمية القصوى للعلاقات الصحية في كل من الشفاء النفسي والمناعة النفسية ضد مشاكل الحياة والصدمات وغيرها. في كتاب “طفل تربى ككلب” مثلًا يخبرنا الطبيب النفسي المؤلف للكتاب أنه لاحظ أن الأطفال الذين يحظون بعلاقات صحية من حولهم، كعوائل صحية وأقارب وجيران، يتجاوزون ويشفون من صدماتهم دون الاستعانة بمختصين، كما تشكل العلاقات لهم طوقًا حاميًا من الصدمات أو مخففًا من وطأتها عليهم، بينما معظم من يعانون تكون لهم علاقات غير صحية ومتقطعة أو معدومة تمامًا. تظهر دراسات أخرى عديدة العلاقة الواضحة والوثيقة بين العلاقات الصحية والصحة النفسية الجيدة، فالإنسان في حاجة دائمًا إلى قنوات يعبر فيها عن مشاعره واحتياجاته، وهمومه وأحزانه، وهو ما يتوفر في العلاقات الصحية الآمنة.
في حال لم تكن هناك علاقات يمكن التحدث فيها بحرية وراحة فهناك طريقة أخرى مهمة وفعالة جدًا، وهي الكتابة! لا تستهن بهذه الطريقة أبدا، فنفس المنطق ينطبق عليها. عن طريق الكتابة نحن نرتب أفكارنا ونراها ونميزها، والأهم من ذلك كله أن الكتابة تُفقد الأفكار السلبية قوتها وسحرها، ويسري الأمر على المشاعر السلبية تمامًا، حيث أن الكتابة عنها يجعلها تنسكب وتجري مع الكلمات خارج عقلك وجسدك، وتجعلك تشعر بالخفة والراحة من جديد. تعتمد الكثير من كتب العون الذاتي النفسي على تمارين كتابية من أجل أن يكون لها مفعول، وهي فعالة حقًا، ولكن الكثير من الناس يقرؤون هذه الكتب دون ممارسة التمارين بسبب التكاسل أو التسويف، والنتيجة هي أنهم لا يستفيدون منها كثيرًا، وهو شيء مؤسف.
هذه دعوة لك في حال لم ترد مراجعة مختص، أو أردت أن تجرب بدائل أخرى، لأن تتحدث عما يزعجك في سياق علاقة آمنة، أو أن تكتب عنه، المهم هو أن توفر لما يتجمع داخلك من طاقة سلبية تثقلك منفذا تخرج منه. جرب أن تكتب رسالة إلى شخص تسبب لك بألم نفسي في طفولتك مثلًا دون أن تضطر لإرسالها له فعلًا، اعتبرها تجربة عملية ونفّذها الآن. اكتب، اكتب لنفسك وللآخرين، وستشعر بالخفة والراحة، وإذا أردت أن تمارس الأمر بطريقة منهجية وموجهة، وهو ما ستكون له فائدة أكبر، استعن بكتب العون الذاتي النفسي التي تشرح بعض الطرق العلاجية وتوفر لك تمارينا كتابية تستطيع ممارستها بنفسك دون الحاجة لمختص. سنحاول هنا في لبيه توفير ملخصات مفيدة قابلة للتطبيق لبعض هذه الكتب. جربها واخبرنا برأيك ونتيجة تجربتك. المهم ألا تفقد الأمل، وأن تعرف أن إمكانية الشفاء ليست محصورة في جلسات العلاج النفسي.
المرجع:
https://journals.plos.org/plosone/article?id=10.1371/journal.pone.0238906