يدور العالم في عيني الطفل حول والديه، فهما أول من رأى وأحب واحتضن، ومن خلالهما شاهد وسمع العالم واختبره، وبجانبهما نام واطمئن وكبر.
ينهض الطفل ويكبر على أكتاف والديه، وانهيار واختفاء أحد هاتين الدعامتين حدث صادم بالنسبة له، خصوصًا وأنه مازال على طريق النضج والنمو، ولم يستوعب بعد كم العالم معقد وصعب وقاسٍ، وإن دعم الطفل والاهتمام به في مثل هذه اللحظات أساسي وضروري جدًا.
إن تقديم الاهتمام والدعم، سواء للطفل أو للبالغ، عندما يفقد شخصًا مقربًا منه، أمر ضروري وأساسي يتفق عليه الجميع. مع هذا، تختلف طريقة تقديم هذا الاهتمام بين الطفل والبالغ، فالطفل لم يستوعب بعد صدمة الفقدان، ولم يكتمل نموه العاطفي والنفسي الذي يسمح له بالتأقلم مع هذا الكم الهائل من المشاعر الصعبة والحيرة التي تتلو فقدان شخص مقرب جدًا؛ لهذا نقدم فيما يلي بعضًا من الخطوات العملية، لتحقيق الدعم المناسب للطفل في مثل هذه المواقف:
الاهتمام بمشاعر الطفل
يجيّش فراغ الفقدان والفراق في النفس مشاعر كثيرة متنوعة من الحزن والحيرة والشعور بالذنب إلى الغضب والخوف والألم، وكل نوع من هذه المشاعر قوي بمفرده، وتصبح عند اجتماعها سوية أقسى وأصعب.
الخطوة الأولى في التعامل مع هذه المشاعر ليس إنكارها أو إهمالها أو كبتها، بل الاعتراف بها وإعطائها الفرصة في الظهور، عبر الحديث والتعبير عنها. اسمح للطفل بالتعبير عن هذه المشاعر، وأعطه الفرصة لطرح جميع الأسئلة التي قد تخطر بباله بسبب هذه الحادثة، وإن بدأ في البكاء احتضنه واسمح له في البكاء قدر ما يحتاج، وإن شعر بالحزن التف حوله واسمح لمشاعره بالتفاعل والتأقلم مع الواقع، ولا تحاول إخراجه بسرعة من حالته الشعورية، أو إلهائه بشيء سعيد ومفرح، فقط أعطه الفرصة ليحزن وكن بجانبه.
وجدت دراسة (Westphal et al,. 2016) أن الاهتمام بالمشاعر الناتجة عن الصدمات العاطفية، يفسح الطريق أمام الثقة في النفس لتتطور في التعامل مع هذه المشاعر الصعبة، ويعطي الفرصة لبناء مهارة التعاطف مع مشاعر الآخرين، ويجنب الشخص الوقوع في مشاعر تأنيب الضمير والشعور بالذنب أمام شيء لم يخطئ به.
توفير بيئة آمنة ومستقرة للطفل
يبني الطفل عالمه إلى جانب والديه، ومع غياب أحدهما يشعر الطفل بأن هذا العالم على وشك الانهيار بزوال ركن أساسي منه، عندها يصاب بالحيرة ويتساءل حول كيفية استمرار حياته من دون والده أو والدته، وقد يشعر بالخوف من الأمور التي لا يستطيع إنجازها من دونهما.
إن الطفل الذي مازال في طور النمو لا يعرف كيفية التعبير عن مثل هذه المشاعر والمخاوف، ولا يعرف كيفية تدبيرها والتعامل معها، أو كيف يستطيع طلب المساعدة، إلى جانب كون هذه المشاعر جديدة عليه ولم يختبرها من قبل.
لا تنتظر من طفلك إخبارك بما يشعر، إنما بادر إلى توفير بيئة آمنة ومستقرة، تسمح له في الشعور بالثقة والأمان حتى يتمكن من التأقلم مع ما يشعر ومع الواقع الجديد. ابدأ بالاهتمام بمشاعره والسماح له بالتعبير عنها، وضع نظامًا يوميًا بسيطًا يتمحور حول موعد الطعام والنوم، وأبعده عن الأماكن الصاخبة والجياشة، واسمح له في اللعب والحركة والاستكشاف إن أراد ذلك.
يساعد توفير جو دافئ مليء بالعاطفة والاهتمام والدعم -حسب دراسة أجريت (Milevsky et al., 2007)- على بناء شخصية إيجابية قادرة على تجاوز الصدمات العاطفية.
التأكيد على حبك ودعمك له
يشعر الطفل بالحيرة والتوتر عند خسارة أحد والديه، وقد تنتابه الكثير من مشاعر القلق حول بناء نفسه، وقد يشعر بالنقص والضعف عندما يقارن نفسه بأقرانه وأًصدقائه الذين لم يختبروا مأساته؛ لذلك يجب الاهتمام بالطفل، والتعبير المستمر عن محبتك له، واستعدادك الدائم لتكون بجانبه ومساندته، ودعمه، والإجابة عن أسئلته، حيث يرمم هذا الأمر من الفراغ الذي يتركه فقدان أحد والديه في داخله.
شجعه على التعبير عن مشاعره وأفكاره
الطفل وهو في مرحلة النمو والتطور يكون خجولًا في التعبير عن مشاعره وأفكاره، ومحتارًا ولا يعرف الأسلوب أو الوقت أو المكان المناسب لفعل ذلك. شجع طفلك على التعبير عما يشعر أو يفكر به، كما يمكنك التحدث معه والاستماع لحديثه، وحاول عدم مقاطعته كثيرًا أو الدخول في نقاش معه أو سرقة فرصة الحديث منه، بل أعطه المساحة والفرصة للحديث قدر ما يحتاج، ولا تستعجله، وأبدِ اهتمامك ومتابعتك المستمرة له.
يميل بعض الأطفال لأساليب أخرى للتعبير عما يشعرون، إما بالرسم أو الكتابة أو الغناء أو حتى تمثيل ما يشعرون به عند اللعب. انتبه لطفلك وأكد على وجودك الدائم لمساعدته والاستماع له، حتى إن لم يكن لديه الرغبة في هذا، فقط أعطه بعض الوقت والمساحة.
العناية بنفسك
لا يقل اعتنائك بطفلك في لحظاته الصعبة أهمية عن اعتنائك بنفسك، فحتى تكون قادرًا على توفير الرعاية والاهتمام المناسبين للطفل، يجب أن تكون مرتاحًا وقويًا وهادئًا، ومثلما يحتاج الطفل إلى نظام يومي مستقر وغذاء صحي مفيد ودعم واهتمام مستمر، تحتاج أنت لكل هذا. نم جيدًا، واعتني بجسدك، ولا تخجل أبدًا من طلب المساعدة من أفراد عائلتك وأصدقائك وطبيبك النفسي، الذي سوف يساعدك على فهم ذاتك وكيفية الاعتناء بها وتجاوز العقبات التي تواجهك.
في النهاية، من المهم الانتباه أن كل طفل مختلف في ذاته، وقدراته وتفضيلاته، ولا توجد طريقة واحدة تستطيع تطبيقها على جميع الأطفال، لكن الأكيد أن الجميع يحتاج في أوقاته المظلمة إلى الدعم والاهتمام والحب، وهذا ما يجب أن تركز على توفيره لطفلك، بالإضافة لذلك لا تتردد في التواصل مع معالجك النفسي عبر تطبيق لبيه لمساعدتك على تطوير الطرق والاستراتيجيات المناسبة للتعامل مع طفلك في مثل هذه الظروف.
الدراسات
1- Westphal, M., Leahy, R. L., Pala, A. N., & Wupperman, P. (2016). Self-compassion and emotional invalidation mediate the effects of parental indifference on psychopathology. Psychiatry research, 242, 186-191.
2- Milevsky, A., Schlechter, M., Netter, S., & Keehn, D. (2007). Maternal and paternal parenting styles in adolescents: Associations with self-esteem, depression and life-satisfaction. Journal of child and family studies, 16, 39-47.