ملخص كتاب: الطفل الذي تربى ككلب | د. بروس بيري
ماذا لو ترعرع طفل في قفص مع الكلاب؟ هل سينمو ليصبح إنسانًا طبيعيًا؟ أم سيكون أشبه بالكلاب؟ هل سيتعلم الكلام والتفكير؟ والأهم من ذلك، هل سيتعلم الحب؟ وإذا حصل وعاش أحد الأطفال هذه التجربة فعلًا؛ فهل يمكن إعادة تأهيله ومساعدته باللحاق بمستوى نمو ونضج أقرانه؟ وهل سيصبح طبيعيا فعلا؟ أم أنه سيكون كمن يتعلم لغة ثانية متأخرًا، أي أنه يستخدمها بلكنة واضحة؟
في هذا الكتاب الصادم المؤلم، والمليء بالحب والتعاطف والأمل في نفس الوقت، يناقش الطبيب النفسي بروس بيري، أحد أشهر العاملين في مجال معالجة ومداواة صدمات الأطفال، بعض أصعب وأغرب الحالات التي عمل معها خلال سنوات خبرته الطويلة، والتي من بينها حالة طفل نشأ مع الكلاب دون حب أو اهتمام كاف، ويشرح لنا كيف يؤثر الإهمال والعنف والحرمان المبكر، والذي قد يُمارس بجهل ونية طيبة، على نمو دماغ الأطفال بحيث تتأثر بذلك جميع نواحي حياتهم. لكنه لا يكتفي بسرد قصص مؤلمة وحسب، بل يرينا في نفس الوقت كيف أن أمل الشفاء موجود دائمًا ويساعدنا على استيعاب ذلك من خلال شرح كيفية نمو الدماغ وتطوره بطريقة بسيطة تناسب القارئ غير المتخصص.
في الكتاب تسعة حالات انتقاها د. بيري بعناية؛ لأنه وجدها كافية لشرح ما يريد أن يوصله لنا. جميعها لأطفال كانوا قد تعرضوا لتجارب إهمال أو حرمان أو عنف، مما جعلهم يعانون من مشاكل سلوكية ونمائية واجتماعية. يحاول الكاتب عن طريق سرد قصصهم لنا أن يخبرنا أن قصصًا مشابهة لهذه قد تكون حصلت أو تحصل حولنا، بل ربما حصلت لنا أنفسنا، ويساعدنا على محاولة فهم تصرفات غيرنا وتصرفاتنا تحت ضوء فهم جديد قد نتمكن من خلاله أن نكون أكثر تفهما ورحمة وتعاطفا مع الغير ومع أنفسنا. يقوم د. بيري بكل ذلك من دون محاولة لوم أحد كالآباء أو العوائل المتبنية، حيث يرى أن معظم الأخطاء المرتكبة تحصل بسبب جهل حقيقي باحتياجات الطفل أو بسبب تكرار لنمط تربية متوارث خاطئ.
يشرح د. بيري أن الدماغ البشري في السياق التطوري نما وتشكل من الداخل نحو الخارج، أي أنه كالبيضة، نما فيها الجزء الأصفر أولًا، وهو مشترك بيننا وبين الزواحف، وهو المسؤول عن الغرائز الأساسية وتنظيم مهام الجسد التلقائية، ثم جاء بعده الجزء الأبيض، وهو الذي نشترك فيه مع الثدييات، وهو المسؤول عن المشاعر عادةً، ثم بعد ذلك كانت قشرة البيضة، أي قشرة الدماغ، والتي يتميز بها الإنسان بالتفكير المنطقي والوظائف العقلية العالية التي لا توجد في الحيوانات. يخبرنا د. بيري أن نمو الدماغ من بعد الولادة يكون أيضًا بنفس هذا التتابع، لكن النمو يكون ناقصًا إن لم يحصل الدماغ على المحفزات التي يحتاجها حسب فترة نموه، ونمو جزء من الدماغ يعتمد على نمو الجزء الذي يفترض أن ينمو قبله.
يولي د. بيري أهمية كبيرة لشرح كون الدماغ ينمو بالاستخدام، ويستخدم نموذج قطط تمت تغطية أعينها منذ الولادة مما تسبب في عماها الدائم، كما يستخدم مثال العضلات، حيث أن العضلة التي لا تستخدم تضعف وتضمر، ويخبرنا أن ذلك ينطبق على الدماغ وأجزائه المختلفة التي لا تعمل كما يجب إن أُهمل الطفل؛ فالطفل يحتاج إلى محفزات مختلفة طوال فترة نموه، والتي تكون أهم وأكثر حساسية خلال السنوات الثلاثة الأولى من العمر، والتي إن فاتته ولم يحصل عليها خلال هذه السنوات فسيستمر بالمعاناة من فقدانها طوال حياته إذا لم تعويضها وإعادة تأهيل مناطق دماغه المحرومة.
يقول د. بيري أن الأمهات، وبشكل غريزي، قادرات بالعادة على العناية بأطفالهن ومعرفة احتياجاتهم رغم كل التعب والإرهاق والمتطلبات اللانهائية والمزعجة للأطفال، لكن هناك أمهات عاجزات أو جاهلات بسبب أنهن أنفسهن لم تُلبى احتياجاتهن في طفولتهن، ولم يحصلن على التعلق الصحي من موفري رعايتهن. أحيانا أيضًا ترتكب الأخطاء؛ بسبب نصائح طبية عتيقة ثبت خطؤها، كنصيحة تجاهل الطفل إن شاغب بحجة أنه يستخدم ذلك للحصول على الاهتمام، أو ترك الطفل يبكي وحيدًا بحجة أن ذلك جيد له أو لحباله الصوتية، أو حتى لا يصبح مدللًا.
وفي حالات أخرى يكون الفقر وانعدام الدعم الاجتماعي المتمثل في العائلة الممتدة أو المجتمع المحلي المتضامن، كما في العوائل النووية المكونة من أبوين أو العوائل التي تعولها أمهات عزباوات أو آباء عزاب يعملون خارج المنزل طوال اليوم بدون وجود من يغطي أماكنهم مع الطفل، يؤدي إلى حرمان الأطفال من فرصة الحصول على المحفزات الكافية لأدمغتهم الصغيرة، والتي من أهم أمثلتها العلاقة الوثيقة بينهم وبين موفري رعايتهم، والتي تكون متمثلة في الحضن والحب والهدهدة والهزهزة والمناغاة والكلام والمضاحكة واللعب والطمأنة والإراحة في حالة الخوف والقلق.
نماذج لبعض الحالات التي ناقشها د.بيري في كتابه:
ساندي
هذه حالة لطفلة في الرابعة من عمرها شهدت اغتصاب وذبح أمها، ولم يأت أحد ليكتشف ما حدث لها ولأمها إلا بعد إحدى عشرة ساعة من الحادث. بدأ انخراط د. بيري في الحالة بعد أن طُلب منه تقييم جاهزية واستعداد الطفلة النفسي لأن تقدم إفادتها في المحكمة. يتحدث د. بيري بذهول وإحباط عن جهل الناس والنظام القضائي، بل حتى نظام حماية الأطفال نفسه، بأثر الصدمات على الأطفال وبأهمية حصول هؤلاء الأطفال على التدخل العلاجي النفسي العاجل، ويناقش خطأ الاعتقاد السائد الذي يقول أن الأطفال مرنين ويستطيعون تجاوز كل ما يحدث لهم، فالأطفال وعلى عكس ما نظن، أكثر حساسية من البالغين بكثير، وفي أحيان كثيرة تكون صدمة واحدة كافية لأن تجعل ما تبقى من حياتهم صعبًا.
كما يناقش د. بيري في هذه الحالة كيفية عمل نظم الاستجابة للإجهاد بعد تعرض الطفل للصدمة، حيث تكون مفرطة النشاط مثل جهاز إنذار حريق يطلق إنذاره لأتفه الأسباب، ويشرح أن ما تحتاجه هذه النظم لتهدأ وتتمكن من مواجهة الموترات بكفاءة هو بيئة آمنة يكون فيها روتين وتحكم وقدرة على التنبؤ بما يحصل وعلاقات صحية آمنة، أما الفوضى وعدم معرفة ما يمكن أن يحدث وانعدام الشعور بالتحكم وفقدان العلاقات الآمنة فإنه يفاقم من المشكلة ويزيد الإجهاد ويؤخر التشافي أو يمنعه تماما، كما يجعل التعامل مع الموترات والتحديات صعبًا.
لورا
لورا طفلة في الرابعة من عمرها لكنها تزن 12 كغ فقط. يتحدث د. بيري كيف أنه زارها في المستشفى ووجد جسدها النحيل يتلقى المغذيات والأدوية من دون فائدة، وعندما اطلع على ملفها وجدها قد تنقلت بين العديد من المستشفيات والأطباء وتشخصت بالعديد من الأمراض، وأجريت لها الكثير من التحاليل والخزعات لمعرفة سبب عدم اكتسابها للوزن من دون الوصول إلى حل. فكر د. بيري أن معرفة سياق الحالة هو ما قد يساعده، وبما أن البشر يكررون طرق التربية التي نشأوا عليها سأل أمها عن طفولتها. تبين أن الأم نشأت في دور رعاية مختلفة ولم تتعلق تعلقًا صحيًا بأي أحد، لذلك كانت باردة المشاعر، ولم تكن تحضن ابنتها حتى، لذلك استنتج د. بيري أن هذا البرود العاطفي قد يكون السبب.
اتصل د. بيري بامرأة تدعى ماما بي كانت تتبنى الأطفال الصعبين، وتتعامل معهم بالاهتمام والحنان والاحتضان، بدلًا من العقاب والتجاهل، وتقوم بهدهدة وهزهزة الأطفال، حتى الكبار منهم، كما لو كانوا رضعًا صغارًا. عرض د. بيري عليها أن تساعد أم لورا في معرفة كيفية تقدم الحب والعاطفة والتلامس الجسدي الحنون لابنتها. بافتراض أن جسدها كان في أمس الحاجة إلى الحب والحنان حتى ينمو. وبقبول ماما بي لتقديم المساعدة، انحلت مشكلة لورا، وعاد جسدها ينمو بشكل صحي وطبيعي.
ليون
هنا يتحدث د. بيري عن ليون، وهو شاب قام بجريمة بشعة وبدم بارد: اغتصب ليون فتاتين، ثم قتلهما دون أن يشعر بأي ندم أو حزن أو ذنب، بل أن الشيء الوحيد الذي ندم عليه بعد الجريمة، هو أنه لم يغير حذاءه الذي كانت عليه آثار دماء.
سعى د. بيري إلى أن يعرف ما الذي قاد ليون إلى أن يكون وحشًا كما هو الآن، هل جيناته فاسدة وحسب؟ هل أم أن هناك ما حدث في طفولته وجعله يصبح هكذا؟
العجيب في قصة ليون أن له أخ أكبر، اسمه فرانك، وكان يتمتع بصحة نفسية وجسدية ممتازة جدا، وكان يدير حياة متزنة، فما الفرق بينه وبين أخيه؟ وكيف لطفلين من عائلة واحدة أن يكونان مختلفان بهذا الحجم؟
بعد لقاء د. بيري مع عائلة ليون، اكتشف أن ذكاء الأم كان محدودًا، وأنها خلال رعايتها بابنها الأكبر فرانك كانت تعيش في قريتها الصغيرة، محاطة بعائلة ممتدة تدعمها وتساعدها في رعاية ابنها. فكانت عندما تتعب وتفقد أعصابها، تقوم أحد قريباتها بالاهتمام بفرانك وإعطائها مساحة لترتاح. لكن كل شيء تغير عندما انتقلت العائلة إلى مدينة أخرى لأجل البحث عن وظيفة، وابتعدت عن العائلة الممتدة وشبكتها الداعمة. بعد ولادة ليون كانت الأم عندما تشعر بالتوتر، تخرج للتنزه مع ابنها الأكبر فرانك، وتترك ليون وحده في ظلام المنزل. كان ليون بطبيعة الحال يبكي في البداية، لكنه مع الوقت اعتاد على الوحدة والإهمال، وأدرك أنه لن يأتي أحد لطمأنته والعناية به. وقد استمر هذا الوضع لمدة طويلة للأسف. لم يتعلم ليون التعاطف، لأنه لم يعرفه أصلا منذ بداية طفولته.
هنا يظهر بشكل واضح التأثير المدمر الدائم على الأطفال المُهملين في بداية الطفولة، حيث لا يحصل دماغهم على التحفيز الكافي ولا يرتبطون عاطفيًا بغيرهم لينظموا مشاعرهم ويتعلموا التعاطف والإحساس بالغير، مما قد يساهم في تنشئة أطفال غير أسوياء، بلا تعاطف ولا رحمة.
يؤكد د. بيري هنا مجددًا على أهمية العلاقات الاجتماعية الداعمة، والتي تكون متمثلة في العوائل الممتدة والمجتمع المحلي كالجيران وغيرهم، فليس من السهل على الأم تربية عدد من الأطفال وحدها دون مساعدة، ولولا انتقال العائلة بعيدًا عن شبكتها الاجتماعية الداعمة لربما لم يحصل ما حصل.
الطفل الذي تربى ككلب، جستن
كان جستن طفلًا ثائرًا، يلقي بالفضلات على الأطباء والممرضات ولا يستجيب لأي شيء ولا يعرف الكلام. بعد البحث عن خلفية تنشئة جستن، اكتشف د. بيري أنه طفل توفيت جدته التي كانت ترعاه؛ فتولى تربيته زوجها الذي لم يكن يعرف شيئًا عن تربية الأطفال، وكان يربي مجموعة من الكلاب في منزله. عامل هذا الرجل جستن بنفس الطريقة التي يعامل بها كلامه، فتعرض جستن للحرمان من الاهتمام والرعاية والحب الذي يحتاجه الطفل، ولم يحصل سوى ما تحصل عليه الكلاب من قليل من الاهتمام والطعام.. أظهرت نتائج أشعة الدماغ ضمورًا في أجزاء معينة بسبب قلة تحفيزها وعدم وجود من يخاطبه ويتحدث معه.
بدأ د. بيري بعلاج جستن، وأول ما بدأ به معه كان توفير بيئة آمنة هادئة يمكن للطفل توقع ما يمكن أن يحدث فيها، وبدء طريقته العلاجية ببناء علاقة ثقة مع الطفل، حيث لم يجبره على شيء ولم يقترب منه بسرعة تجعله يتوتر وتحدث معه بلطف وبطء. كانت طريقته ناجحة جعلت حالة الطفل تتحسن بسرعة مذهلة، وقد تم صرفه من المستشفى بعد مدة وعاش مع عائلة راعية واستمر في دراسته بشكل جيد.
الهلع الشيطاني
هنا يتحدث د. بيري عن إشاعة انتشرت في منطقة أمريكية بها معدلات أمية وجهل عاليتين جعلت كثيرًا من الناس يصابون بالهلع ويتهمون الأبرياء ويجبرون الأطفال على قول ما لم يعيشوه أو يعرفوه. كانت الإشاعة عن وجود طائفة سرية تعبد الشيطان وتقدم الأطفال والكبار كقرابين له. وكان الكثير من الناس قد تم اتهامهم واعتقالهم بهذه التهمة، والسبب وراء ذلك هو اعترافات الأطفال.
يشرح د. بيري مرونة الذاكرة، وكيف أننا في كل مرة نسترجع ونتذكر فيها حدثًا عشناه؛ فإننا نغير فيه قليلًا دون أن ندرك، ويتحدث عن اشتهار موجة التحدث عن الصدمات السابقة واعتبارها ضرورية من أجل التشافي النفسي. لم تكن المشكلة في التحدث عن الصدمات برأيه، بل في الإصرار على وجودها حتى إن لم يتذكرها الشخص، واتباع طرق مختلفة غريبة من أجل محاولة جعل الشخص يتذكرها، وهذا ما حدث مع هؤلاء الأطفال. كانت تُمارس عليهم ما يسمى بجلسات “الاحتضان”، حيث يُحضنون بقوة ويتعرضون للإيلام بغرز الأصابع في قفصهم الصدري إلى أن ينطقوا بما يراد منهم أن ينطقوه، والذي كان في حالة الهلع الشيطاني الاعتراف بتعرضهم للأذية والاغتصاب ومشاهدتهم لطقوس عبادة الشيطان وذبح القرابين له.
ما جعل د. بيري يستطيع التمييز بين الادعاءات الصحيحة والخاطئة هو مقياس سرعات نبض القلب، فالطفل عندما يتذكر حدثًا صادمًا حدث له حقًا ترتفع سرعة نبضات قلبه بسرعة، حيث يجهزّه جسده إلى أن يهرب أو يواجه ما سيحدث له، أما عندما يتحدث عن شيء أجبر على قوله دون أن يحصل حقا فإنّ نبضات قلبه تبقى كما هي. لا يرى د. بيري أن محاولة تذكر صدمة مفيد، بل قد تكون له نتائج معاكسة، ويذكّرنا أن مزاجنا الحالي يؤثر على طريقة تذكرنا للأحداث، وقد يجعلنا نصنع من ذكرياتنا صدمة لم تكن موجودة في البداية.
آمبر
آمبر طفلة وُجدت غائبة عن الوعي في دورة مياه المدرسة، ولم تظهر التحاليل أي مخدرات أو مواد في دمها. بعد تحري د. بيري وجد أن في الليلة السابقة اتصل حبيب أمها السابق الذي انفصلت عنه أمها بعد أن اكتشفت أنه كان يغتصب آمبر لسنوات منذ كانت في السابعة، وقد كان من استجاب للتلفون لسوء الحظ هي آمبر. لاحظ كذلك وجود آثار جراح في معصمها. يجرح بعض الناس أنفسهم للدخول في حالة انفصالية، أي حالة تشبه الخدر، للهرب من القلق والذعر. سبب حدوث ذلك هو إفراز الدماغ للأفيونات التي تسكن الألم الجسدي والنفسي، والتي كلما زادت كلما كانت حالة الانفصال عن الواقع والعيش في حالة تشبه الحلم أشد.
فكر د. بيري ما إذا كان معقولًا أن ما حدث لها يشبه ما يحدث في حالة جرعة مفرطة من الهيروين، أي أن جرعة أفيوناتها الداخلية كانت كبيرة. وفعلًا استيقظت الطفلة بعد أن حقنوها بمادة مضادة للهيروين. بعدها بدأ يرى الطفلة في جلسات ليعالجها من صدمتها التي تدفعها لجرح نفسها كلما شعرت بالتوتر. وقد عرف منها أن هذا الانفصال عن الواقع بدأ أثناء اغتصابها، حيث يهرب عقلها إلى مكان آمن لا تحس فيه بالألم. تخبره آمبر أن جلدها “سحري” كلما جرحته أعطاها شعورًا رائعًا ومريحًا، وهو نفس الشعور الذي يصل إليه آخرون عن طريق المخدرات.
يتطرق هنا د. بيري إلى نقطة مهمة يشرح فيها العلاقة بين الصدمات والألم النفسي وبين استخدام المخدرات، حيث يقول أنه وعلى عكس ما يظنه الناس، من يجرب الهيروين من الناس الصحيين العاديين فإن الشعور الذي يسببه لا يعجبهم ولا يدمنون عليه، بينما يكون مدمنوه في العادة من أصحاب الصدمات السابقة والألم النفسي المستمر، خاصة أولئك الذين أنقذتهم الحالة الانفصالية أثناء صدمة سابقة من الشعور بالألم.
تجاوزت آمبر صدمتها لاحقا وتعلمت كيف تتحكم بقلقها بطرق أخرى صحية غير جرح نفسها.
بيتر
بيتر طفل تربى في ملجأ أيتام في السنوات الثلاثة الأولى من عمره. وقد كان لا يحصل في هذا الملجأ على تواصل مع شخص بالغ سوى لمدة خمسة عشرة دقيقة يوميًا. تبنته عائلة أمريكية وقدمت له كل ما تستطيع تقديمه من الدعم والحب والمصادر. ولكن تحسن بيتر توقف بعد مدة، عندها تم الطلب من د. بيري المساعدة.
وجد د. بيري أن بعض مناطق الدماغ قد نمت فعلًا، لكن مناطق أخرى بقت كما هي عند طفل في الثانية من عمره. بعد تحديد مكان الخلل تمكن د. بيري من معرفة ما يحتاجه الطفل من أنواع التحفيز من أجل أن تنمو هذه المناطق المهملة. نصح والديه بأن يعاملوه وفق المرحلة التي علق فيها جزء الدماغ المعين، أي أن يعاملوه أحيانًا كما لو كان عمره سنتين، كما شرح الأمر لأصدقاء صفه، مما جعلهم يتوقفون عن نبذه ويكونون سببًا في تحسنه السريع بعد ذلك. كبر بيتر وأصبح بحلول المرحلة الثانوية طالبًا عادياً.
في نهاية الكتاب يلخص د. بيري ما تعلمه من هذه الحالات، ويطلب منا كأفراد مجتمع أن نكون أكثر تفهما ودعمًا حتى نوفر الفرصة للمصدومين والمتألمين بيننا إلى أن يحظوا بفرصة التحسن وعيش حياة أقل صعوبة. كما يشرح لنا أزمة هذا العصر الذي تفتتت فيه العوائل وقلّ أعداد أفرادها، مما حدّ كثيرًا من فرص الأطفال في الاحتكاك بنماذج مختلفة وحسنة لبالغين داعمين ومحبين، وقلل من فرصهم بتعويض غياب شخص مهم بشخص أو أشخاص آخرين. كما أنها حرمت الكثير من البالغين من الاحتكاك بالأطفال وتعلم طريقة الاعتناء بهم والتعامل معهم وتربيتهم. هذه حسب رأيه مشكلة جديدة تواجه الإنسان، ففي السابق، وإلى زمن ليس بالبعيد كثيرًا، كان الناس يعيشون في مجموعات تصل إلى 120 شخصًا، أما الآن فالكثير لا يعرفون جيرانهم حتى، ويعيشون دون شبكة اجتماعية داعمة تخفف عنهم ضغوط الحياة.
يشرح د. بيري كذلك الطريقة العلاجية التي طورها مع زملائه، وهي الطريقة العصبية التتابعية، والتي يتم فيها التعامل مع الطفل حسب العمر الذي “علق” فيه وحسب المنطقة الدماغية التي يبدو أنها في حاجة إلى التحفيز، ويشرح طريقة عملها على الدماغ، وكيفية الحصول على شهادة ممارسة لهذه الطريقة لمن يرغب. كما يرفق أسئلة في نهاية الكتاب لمساعدة من يريدون مناقشة الكتاب والحالات المذكورة فيه والتعلم والتعليم عن صدمات الأطفال وعلاجها.
من الممكن تلخيص الكتاب في النقاط التالية:
1- الدماغ عضو حساس جدًا؛ خصوصًا في السنوات الأولى، وهو في حاجة ماسة للمحفزات المختلفة حتى ينمو.
2- الدماغ عضو يصنع الروابط والعلاقات بين الأشياء المختلفة التي تحدث بشكل متزامن؛ ففي الاحتضان والملامسة والملاعبة يربط الدماغ مع التكرار هذه التجارب مع بعضها بحيث تصبح مرغوبة وممتعة. بنفس الطريقة يربط الدماغ بين الصدمة وما يُذكّر بها حتى نتعلم تجنبها.
3- للعلاقات الاجتماعية الداعمة والصحية الأثر الكبير في إنشاء مناعة قوية ضد الصدمات. أصحاب العلاقات الصحية الداعمة لا يحتاجون عادة إلى العلاج النفسي من الصدمات، ففي علاقاتهم شفاء لهم.
4- الكثير من التصرفات الغريبة للأطفال، سواء العدوانية أو الانطوائية، سببها صدمات وآلام طفولة لم تشفى.
5- عندما يتحسس نظام الاستجابة للإجهاد في الدماغ نصبح أكثر قلقًا واستثارة وترقبًا لعلامات الخطر، مما يفقدنا القدرة على التركيز، وهو ما قد يكون السبب الحقيقي وراء بعض حالات فرط الحركة ونقص الانتباه وغيرها من اضطرابات التركيز والسلوك.
6- يحتاج الأطفال إلى بيئة آمنة هادئة يكون لهم فيها تحكم حتى يكونوا أكثر قوة وأمانًا في تعلم مواجهة المجهدات.
7- مناعة الأطفال القوية تُصنع، ولا تكتسب بالولادة؛ فالرضيع البشري من أضعف الكائنات وأعجزها، وهو في حاجة إلى الكثير من الدعم والحب والرعاية حتى يصبح قويًا.
8- الحب أهم ما يمكن أن يحصل عليه الطفل، ومن دونه؛ فلا معنى للأشياء الأخرى التي يحصل عليها.
يغمر الكتاب القارئ بخليط من المشاعر المختلفة، يحزنه ويبكيه ويملؤه باليأس، ثم يضحكه ويحمسه ويريه أن هنالك دائمًا بصيص أمل. يخبره أننا كائنات تعيش على الحب، وأننا لا يمكن أن نحب أنفسنا من دون أن نُحَب. ويرينا كيف تكون نتائج الحرمان من الحب وخيمة. يكتب كل ذلك الكاتب بأسلوب لطيف متواضع قريب من القلب، ويتركنا مع الكثير من المعلومات التي نحتاج إلى وقت للتفكير فيها وهضمها ومحاولة تطبيقها في واقعنا الذي ينقصه الكثير من الدعم والحب.