البكاء وتأثيره على الصحة النفسية
في السنوات الأخيرة لوحظت زيادة في عدد الأشخاص الذين يشعرون بالذنب أو العار بسبب ما يعتقدون أنه مشاعر سلبية. إن هذا التفكير – من غير شك – نتاج ثقافتنا التي تنحاز بشكل مفرط إلى التفكير الإيجابي، فبالرغم من أن المشاعر الإيجابية تستحق أن نشجعهم، لكن المشكلات تنشأ عندما يميل الناس إلى الإيمان بأنهم يجب أن يكونوا سعداء دائمًا. إن الغضب والحزن كلاهما في الحقيقة جزء مهم من الحياة، إذ تشير الأبحاث الحديثة إلى أن الإحساس بهذه المشاعر وقبولها، أمرٌ لا غنى عنه لصحتنا النفسية، بل إن كبح هذه الأفكار يمكن أن يؤدي إلى نتائج معاكسة تمامًا، لدرجة أنه يمكن أن يؤثر على شعورنا بالرضى. يقول أخصائي علم النفس جوناثان أدلر من كلية فرانكلين دبليو أولين للهندسة: إن الإقرار بتعقيدات الحياة قد يمثل سبيلًا ناجحًا إلى تعزيز الصحة النفسية.
هل كبح المشاعر السلبية أسلوب صحيح دائمًا؟
إن الهدف الأساسي للعلاج النفسي هو تدريب الشخص على الإقرار بكافة أنواع المشاعر التي تعتمل في صدره، والتعبير عنها بغير حساسية، لكننا قد نصادف العديد من الأشخاص الذين يعتذرون عن سرد بعض مشاعرهم، ويلاحظ الأطباء وأخصائيوا العلاج النفسي خلال ممارستهم أشخاصًا يصارعون للتغلُّب على مشاعر سلبية كالغضب والهياج أو الأفكار الانتحارية والعدوانية.
لذلك، لابد من التأكيد على ضرورة التعبير عن المشاعر بطرق عديدة يأتي في مقدمتها البكاء الذي يُعتبر استجابة طبيعية لمجموعة من المشاعر السلبية غالبًا، والتي تتفاوت بين الحزن العميق والسعادة المفرطة، وقد ترتبط أحيانًا بالقلق والتوتر في ظل الرهاب الاجتماعي أو مواقف وظروف اجتماعية أو جسدية سلبية متعددة.
إذ يبقى البكاء أحد الأشكال المهمة للتعبير عن الحزن عند البشر، ولكن من الممكن أن نحزن تمامًا بدون ذرف الدموع، وعلى الرغم من أن الحزن شعور إنساني عمومًا، إلا أن الاستجابة للحزن قد تختلف من شخص لآخر. بالإضافة إلى ذلك، قد تؤثر العديد من العوامل على عملية الحزن وطريقة التعبير عنها.
لا بأس إذا لم تشعر برغبة في البكاء. فربما تكون بحاجة إلى زمان ومكان خاص للحزن بطريقتك الخاصة. ومع ذلك، من المهم التأكد من تعاملك مع مشاعرك بشكل مناسب. إذا كنت تعزل نفسك باستمرار أو تواجه مشكلة في التعامل مع أنشطتك اليومية المعتادة – أو شعرت برغبة في البكاء ولكنك لا تستطيع البكاء – فاطلب المساعدة من استشاري الصحة النفسية للتكيف مع حالات الحزن. قد يقترح الاستشاري طرق مختلفة للعلاجات السلوكية لمساعدتك على التكيف مع حالة الحزن. وربما تشعر بالراحة أيضًا من خلال مجموعات الدعم. وتبعًا للظروف، قد يوصى باستخدام مضادات الاكتئاب أو الأدوية الأخرى على المدى القصير تحت إشرافٍ طبي دقيق.
هل البكاء مفيد لنا؟
يعتقد الباحثون أن دراسة البكاء، أكثر من أي تعبير عاطفي آخر، قد تساعدنا في الحصول على رؤية أفضل للطبيعة البشرية، إذ أظهرت إحدى الدراسات صورًا للمشاركين لوجوه مع دموع ووجوه تم إزالة الدموع منها رقميًا، بالإضافة إلى صور تحكم خالية من الدموع. فحكم الأشخاص على الوجوه بالدموع على أنها تبدو حزينة. ومع ذلك، صنف المشاركون أولئك الذين أزيلت دموعهم بشكل أكثر غموضًا – ليس فقط أقل حزنًا، ولكن يعكسون مجموعة من المشاعر غير المؤكدة، مثل القلق أو التأمل.
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة، روبرت بروفين: “إن الدموع أصبحت نوعًا من المواد المستخدمة لدعم الحياة الاجتماعية، ما يساعد على ضمان الأداء السلس للمجتمع من خلال مساعدة الناس على التواصل”. أكد باحثون في جامعة تيلبورغ أيضًا أنه حتى في أوقات التعرف القصيرة جدًا، أفاد المستجيبون بأنهم أكثر استعدادًا لتقديم الدعم للأشخاص الذين يعانون من البكاء المرئي أكثر من أولئك الذين ليس لديهم دموع.
يؤكد الباحثون أن الدموع قد تؤدي أيضًا دورًا علاجيًا، فالدور الجيد للبكاء ما يزال يمثل طريقة ناجحة في التخفيف من المشاكل والاضطرابات النفسية المرتبطة بالتعرض لمواقف قاسية أو راضَّة نفسيًا.
دور البكاء في التعبير عن المشاعر عند الأطفال
بالنسبة للرضع، تعمل الدموع كأداة اتصال مهمة، ما يسمح لهم بإظهار حاجتهم إلى الدعم. وجدت العديد من الدراسات الحديثة أن هذه الوسيلة قد تفيدنا أيضًا بشكل جيد حتى في مرحلة البلوغ.
يبكي الأطفال لأسباب عديدة، إذ يعد البكاء استجابةً عاطفيةً لتجربة أو موقف مؤلم. تعتمد درجة ضائقة الطفل على مستوى نمو الطفل وخبراته السابقة. يبكي الأطفال عندما يشعرون بالألم والخوف والحزن والإحباط والارتباك والغضب وعندما لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم. يمثل البكاء استجابة طبيعية للمواقف المزعجة التي لا يستطيع الطفل حلّها عندما يتم استخدام مهارات التأقلم لدى الطفل، حيث يكون البكاء تلقائيًا وطبيعيًا. وبمرور الوقت، يتعلم الطفل التعبير عن مشاعر الإحباط أو الغضب أو الارتباك دون بكاء، وهنا قد يحتاج الآباء إلى وضع مبادئ توجيهية لمساعدة الطفل على تطوير السلوكيات المناسبة.
عندما يطور الأطفال المزيد من مهارات التأقلم وحل المشكلات، سيقل البكاء كثيرًا، وعندما ينضج الصبيان، يميلون إلى البكاء أقل من البنات، ويعتقد الباحثون أن هذا الاختلاف بين الأولاد والبنات هو سلوك مكتسب وليس فطري.
الثقافة وعلاقتها بالبكاء
يتتبّع الطبيب النفسي فينغر هوتس وزملاؤه نوبات بكاء الناس لتحديد الدور الذي تلعبه الثقافة في سبب البكاء، وقياس التركيب الكيميائي للدموع وفحص التفاعلات التي تثيرها في الآخرين، ويدرسون أيضًا كيف يساعدنا البكاء في التواصل مع الآخرين من خلال دراسة أولئك الذين لا يستطيعون فعل ذلك.
تلعب عدة عوامل دورًا في ميل الفرد إلى البكاء، لعقود من الزمن وفي جميع أنحاء العالم، توصلت جميع الدراسات إلى نفس النتيجة: النساء يبكين أكثر من الرجال.
في الثمانينيات، وجد عالم الكيمياء الحيوية ويليام فري، أن النساء يبكين بمعدل 5,3 مرة في الشهر، بينما يبكي الرجال بمعدل 1,3 مرة في الشهر، مع تعريف البكاء على أنه يتراوح من العيون الرطبة إلى البكاء الكامل، ولا تزال هذه المعدلات تبدو كما هي تقريبًا.
بيولوجيًا، قد يكون هناك سبب لبكاء النساء أكثر من الرجال: التستوستيرون قد يمنع البكاء، في حين أن هرمون البرولاكتين قد يعززه. لكن الرغبة في البكاء ليست كل شيء، إذ وجدت دراسة أجريت على أشخاص في 35 دولة أن الفرق بين عدد مرات بكاء الرجال والنساء قد يكون أكثر وضوحًا في البلدان التي تسمح بقدر أكبر من حرية التعبير الاجتماعي، مثل تشيلي والسويد والولايات المتحدة، تقول مؤلفة الدراسة الرئيسية ديان فان هيمرت الباحثة في المنظمة الهولندية للبحث العلمي التطبيقي، إن الناس في البلدان الأكثر ثراء قد يبكون أكثر لأنهم يعيشون في ثقافة تسمح بذلك، في حين أن الناس في البلدان الفقيرة – الذين من المحتمل أن يكون لديهم حاجة أكبر للبكاء – لا يفعلون ذلك بسبب الأعراف الثقافية التي تستهجن التعبير العاطفي.
تشير الأبحاث إلى أن البكاء قد يعكس أيضًا أنماط التعلق، إذ تشير المعالجة النفسية جوديث كاي نيلسون، إلى أن الأشخاص في العلاقات الآمنة والطبيعية يعتبرون أكثر راحةً في التعبير عن المشاعر والبكاء بطرق تعتبر طبيعية وصحية، في حين أن أولئك الذين لديهم تعلق غير آمن قد يبكون بشكل غير لائق – مع سهولة التحفيز وصعوبة تهدئة الدموع. في الآونة الأخيرة، وجد باحثون من جامعة تيلبورغ أن الأشخاص الذين لديهم أنماط ارتباط غير سليمة – أو أولئك الذين يميلون إلى تجنب العلاقات الوثيقة مع الآخرين – كانوا أقل عرضة للبكاء وحاولوا بجهد أكبر كبح دموعهم أكثر من الأشخاص الذين لديهم أنماط ارتباط طبيعية. ووجدت الدراسة أيضًا أن الأشخاص الذين يعتمدون بشكل مفرط على الآخرين – يبكون في كثير من الأحيان أكثر من الأشخاص المرتبطين بأمان.